رثاء للرجل الذي كان حلمًا
(1)
كنتَ أمام الموقد ،وبطريقةٍ ما التصقت النارُ فيكَ،وتصاعدت،حتى طالت أنبوبة الغاز التي انفجرت،وأنت تجري للأسفل أربعةَ أوار دون أن ينقذك أحد.
زوجتك أغلقت الباب خوفًا،رأتكَ تجري من المطبخ إلى خارج الشقة،إلى خارج العمارة .
بلغت حروقك "مائة بالمائة" كما وصف التقرير الطبي،الذي كان آخر توثيق لحياتك القصيرة.
المادةُ المطفئة للحرائق التي أغرقوك بها ليطفئوا النار التي فيك قد ساهمت في تآكل جسدك،والتعجيل بموتك الأليم.
(2)
حَضَرَ أبي عزاءك مع شريكه السابق-أرباب عملك السابق-ولم يستطع أن يجزم لي إن كان أبوكَ –الذي بدا مذهولاً- رضيَ عنكَ اخيرًا أم لا.
لم يكن مكتوبًا –كما يبدو- أن تظل المدرس في بلدتكم الصغيرة ،تحت عينيه،وطوع امره،كما أراد.
قال رجلٌ لأبي الذي حكى لي،أنك تصالحت مع والدك الذي اشترطَ ألا تطأ زوجتك بيته.
وقال أبي أن أهل زوجتك –الثكلى- كانوا جميعًا في العزاءِ،عداها.
وأفكر أنا كيف أغلقتِ الباب على نفسها-وكذلك فعلت أمها-،تاركةً إباك تحترقُ..أفكر كيف لم تفعل شيئًا واحدًا حقيرًا هي أو أمها ،أفكر في كل الأبواب المغلقة طيلة الأربعة أدوار التي نزلتها مشتعلاً-ياحبةَ عيني-..
هل كنتَ تصرخُ؟ أم ظللتَ تجزُّ على أسنانك كعادتك مع الألم ؟
أفكر ،وأمنعُ نفسي بقوة أن ألعنهم جميعًا.
(3)
عندما أخبروا صديقك ردّ: "على الله مايكونش ولّع في نفسه.."
كان هذا أقسى ما وصلني من أخبارك.
كيف أستوعب أن يكون مثل هذا الردّ تلقائيًا،حتى لو كنتَ هجرت أصدقاءك –ومنهم هذا الصديق-،بعد أن جننتَ بحب تلك المرأة الخارقة التي استطاعت فصلك عن دنياك ،عن أصدقاءك،عن أبيك الذي ثار غضبه أكثر وأكثر،حتى كانت إقامتك في مدينة لم يسبق لك زيارتها عوضًا عن العيش فيها..
تلك المرأة التي سحرتك،وربطتك سريعًا سريعًا بمولود صغير يكبر هي ابنتك.في أقل من عام صرتَ أبًا ،ةبعدها بشهور قلائل كنتَ تتصل بأصدقاءك الذين هجرتهم،الذين هانَ عليكَ (العيش والملح) الذي كان معهم،لتطلب سُلفة،لأن امرأتك مريضة،أو ابنتك مريضة،أو الاثنتين مرضى..
وتخفي مرضك أنتَ،وتخفي تيهكَ أنت،يا من احترقت بالأوهام وبالحب.
ياغريبًا تداوي عطشك بماءِ البحرِ،كنت تظنُ أن امرأتك حبك هي الشفاء والارتواء..
أجري من كلمة صاحبك الذي ظن أنك اشعلتَ في نفسك النار،أراكَ وانت أمام الموقد ،لاترىَ فرقًا بين النار التي ترى وبين النار التي بداخلك،أراك تقترب تقترب كالمجذوب والنارُ تمسك بك..وأطرد الكلمة التي تغلق أمامك أبواب الرحمة.
(4)
لامني أخي –صديقك القديم- على أنني تركتك بعد أن أشعلتُ شرارةَ الحب في قلبك. ثرتُ وغضبتُ جدًا يومَ فعل.
كيف تجرؤ ؟!
إن كانت عيناي تعلقتا بعينيك الجميلتين ،فلم أكن أنا من بدأ شيئًا..تلك الشرارةُ اشتعلت،لم تبدأ فعليًا بفعل فاعل،إنها فقط تحدث..ثم لم أكن لأطيق وقتها أن أجد اهتمامك بتلك الفتاة التي كانت تحبك حتى لو لم تكن تحبها .هذا يجرحُ كرامتي أناا التي أقسمتُ أن أظل حارسًا أمينًا على أبواب قلبي،فلما غافلتَنـي كسارقٍ ذكي،ظللتُ أعاني من كوني حارسًا غير أمين ،وساذج انجذب للشرارةِ دون أن يأخذ حذره.
كم مرةً ترسلُ المراسيل،وأقولُ بحزم "الموضوع انتهى"؟كم مرةً تخبرني عن طريق صديقتي بأخبارك ،وأنك مازلتَ منتظرًا.ثم طالَ انتظارك ،وصرتَ تتخيل أني أراكَ في الطرقاتِ وأتجاهلك عامدةً..ولم أكن لأفعل.
مع كل المكابرة،أخبرُكَ أنني لم أكن لأفعل.
(5)
"كنتَ حلمًا " .
هكذا قلتُ لك في آخر لقاء لنا دُبِّرَ على عجل.قلتُـها واقفةً،وكنتَ واقفًا،وسط الزحامِ في ذاكَ المعرض.
وجهك المحمرُ،المحترقُ،وعينيك لم تبرحا عيني إلا لتنظر للسماء ثم لي .."وإنتِ كمان ..كنتِ حلم بالنسبة لي."
كذبوكَ جميعًا،وجهك وعيناك وقبضتك وخطوتك وظهرك وأنت تمشي..
وأنا ارتميتُ على أقرب رصيفٍ.في الواقع أنا سقطتُ من حالق لأنني فجأةً رأيتُ ما صنعت يداي.
لكن ماذا أفعل؟ماذا كان عليّ ان أفعل؟
صادقةٌ . إذا قلت أن السبب الحقيقي وراء بقاءي واستمراري هو ماكانت عينك تقول وتحكي.
تذكر؟ يوم فقط تصفحت معي كتابًا،للحظة أقسم أني رأيتُ النار تذيبك كأنك من شمعٍ،حتى أنني أحسستني شمعةً.
للحظةٍ كانت كافية لأقرر أنني سأكمل حياتي معك.
كان حلمًا،وأنا استيقظت.(أم أنني في حلم أحلم فيه أنني استيقظت؟)
(6)
زوجتك.البنت لم تكمل العام.وجهك المحمر.بياتك بمقربةٍ مني.عيناك.أبوك.يالغريب.يالبعيد.يالقريب.أمك الطيبة. ظهرك الواشي.لمعة العين وأنت تقهقه.السما التي تهرب فيها(ماذا كنتَ ترى؟).كيف الانتظار؟.بكاؤك.سقوطي من حالق.الحريق.البُلهاء.حروق 100%.أصدقاؤك.هجرتك خارج نفسك.رؤيتك لي في الشوارع التي لم أمشي بها."لا"القاطعة.وطعم الحريق.ورائحة الحريق.ولون الحريق.وأنت وراء النار.وأنا أمام النار.وأنت في النار.
الغناء.النار.صوت بكاء الطفلة.النار.الصوت العالي للأبواب وهي تنغلق.السلالم.النار.النار.النار..
خشخشةُ النارِ وصوتك من بعيد..من بعيدٍ جدًا :
"أين سأجد ثانية
براءتي الضائعة
حُلمي الضائع
طفولتي الضائعة
أين أختفى ظل الأشجر
أين صنعت من نفسي بيتاً؟"*
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ