أكتب من غيظ ومن تعكر دم. والغيظ يزيد شهوة الكلام اضطراما. فتقول ثم تعود فتزيد ما قلت ثم تدلل على صحة القول بقول آخر. دوران في دوران، تسلمك النشوة واضطراب الغضب إلى اللاقرار.
كلام غرضه التخفف، ثم أن ترى ما قلت حين تهدأ نفسك فتعلم ماذا كنت تقول ولم كان الغضب.
والحكاية ببساطة أن حوارا دار أو لنقل أن حديثا دار بيني وبين زميل. كنت أتحدث في واد وهو يجيب من سفح. ثم أتحدث أنا من سفح وهو يجيب من شرفة. وقدرت ألا لقاء حتى استفزني في الحديث عبارة : نحن لا رغبة لنا بالتجربة من جديد، نحن نريد من يصلح أحوالنا .
قلت : ولم نستحق هذا الذي يصلح لنا أحوالنا .. والمظلوم ( قليل الأدب ) لا يغفر له ظلمه سوء أدبه. مع الفارق في التشبيه.
وهل الحياة إلا تجربة نكتشف خطأ أجزائها فنصلحها ، ثم نعود ونجرب . ثم نكتشف خطأ آخر وهكذا . ومن ذا الذي يملك الرؤية الواسعة التي تكشف له طريقه في أوله.
قال : النظرية شيء والتطبيق شيء آخر .
وأين تلك النظرية التي تثبت عند التحقيق كما هي على الورق . هل تتوقف الدنيا لأنه لا يمكن نقل التجارب من الورق تامة إلى الحياة ..
ثم قلت له : لماذا برأيك حدث ما حدث في خلاف أدى لحرب بين الصحابة في أول عهد الدولة الإسلامية . ألم يكن الله قادرا على أن تتأخر هذه الخلافات لقرن من الزمان يكون هذا الجيل الذي تربى على يد النبي على منهج هو اصح المناهج ( كما نؤمن ) وهم خير من تربى ( كما نؤمن أيضا ) – يكون هذا الجيل قد انقضى وتكون العلل ساعتها متاحة..
أيعني هذا أن الله يقول لنا : اخترت لكم منهجا هو آخر مناهج السماء التي أرسلها لكم .. ثم هو وقبل أن يجف مداده الذي كتبتموه به قد فشل في تنظيم حياتكم .. لأن النظرية شيء والتطبيق شيء .
ولو صح كلامك لكان واجبا على هؤلاء أن يسقطوا النظرية لأنهم أخطؤوا التطبيق . أو لأن النتائج لم تكن كما أرادوا ..
ألم يقل جاليليو أن الحجر والريشة الساقطان يصلان معا إلى الأرض .. وحين تجرب ذلك تخذلك الريشة فتباطأ وتتأخر أو لا تصل مطلقا ..
النظرية إطار عام .. والجهد الذي عليك أن توفر لها البيئة التي تصلح لها .. لتصبح النظرية قابلة للتطبيق . أما أن نهرج إلى فكرة المخلص الذي يحمل عنا أعباء أكلنا وشربنا وحريتنا. ثم نلعن مع ذلك كل من يحاول أن يأخذ بيدنا إلى أن نرى وأن نسمع وأن ننفض عنا الكسل فنحن كتنابلة السلطان ..
وتنابلة السلطان كانوا نزلاء دار عجزة ومنين فتحها سلطان عثماني في تركيا، فيها أكل وشرب ونوم. فكثر فيها العاطلون من غير العجزة حتى علم السلطان فأمر بمن هم دون العجزة أن يلقوا في النهر ..
ورآهم رجل ثري محسن, فسأل بعض الحرس : "من هؤلاء؟..وأين تذهبون بهم؟".
فقال الحرس:هؤلاء"تنابلة"!. وقد أمر الوالي برميهم في النهر, لأنهم يعيشون عالة على الناس ولا يؤدون عملا"
فقال الثري المحسن :"هؤلاء مساكين وأنا استطيع أن آويهم طلبا للثواب ,وكسبا للمغفرة.فان لدي بستانا كبيرا أربي فيه بعض الأبقار,فأجلب لها,في كل يوم مقدارا كبيرا من الخبز اليابس لغذائها.وفي البستان سواقي كثيرة يجري فيها الماء العذب الصافي.فليأت هؤلاء التنابلة إلى ذلك البستان فليسكنوا فيه,ويتقوتوا من ذلك الخبز اليابس,بعد أن يبلوه بالماء الجاري في تلك السواقي, فيلين, فيأكلوه" وكان بعض التنابلة في العربة يستمعون إلى كلام الرجل المحسن. وكان من جملتهم رجل عجوز مرمي على وجهه في العربة ويتدلى بعض جسمه خارجها,فرفع رأسه , وسأل الرجل المحسن :"التنقيع على من ؟" وهو يعني من الذي سيقوم بوضع الخبز اليابس بالماء حتى يلين فقال الثري :"عليكم طبعا" فصاح الرجل التنبل بسائق العربة : "سوق عربنجي ... للشط ! " أي سر في طريقك يا سائق العربة للشط..لترمينا فيه !!!
والتنبل كلمة تركية تعني الكسلان والبليد ..
أنا لا مشكلة لدي أن تكون ( تنبلا ) أبدا .. على ألا تطلب من الدنيا أن تمنحك شيئا .. ولا تشتك ظلمك لأحد .. للراحة ثمن ، فلا تطلب ما يأخذه المجتهدون.
و حين تحمل هم نفسك وهم التفكير فيها .. فحينها يكون للكلام معنى ويكون في الرأي الأخذ والرد والتصويب والمناقشة.
أما قبل ذلك. فكل الخطأ في أن نرهق أنفسنا في حوار يغضبني ... وتشمئز منه !! .